لاوتسه والمسيح والخروج من الحضارة


بقلم فادي أبو ديب

“إذا كنتَ جدولاً فالفضيلة سوف تتدفّق من خلالك بثبات، وسوف تصبح طفلاً بسيطاً ثانيةً”

لاوتسه

عبر العصور بقي الفيلسوف الصيني لاوتسه ملهماً عظيماً لكلّ التوّاقين لنمطٍ بسيط من الحياة الطبيعانية المتواضعة، بعيداً عن تعقيد النظم والقواعد الناظمة للحياة المتحضّرة التي وصلنا إليها اليوم. لاوتسه، نبيّ الإنسانية والطبيعة والبساطة الحقيقية، كان من أوائل، إن لم يكن أوّل، من تحسّسوا خطر الرغبة البشرية في العمران وتشييد المدنيّات والحضارات؛ ومنذ القرن السادس قبل الميلاد، بحسب الرأي التقليدي، أطلق صرخته لكي يبتعد الناس عن كلّ ما قد يعبث بأصول إنسانيّتهم ويسخّرها لخدمة الآلة الجمعيّة المستبدّة، بما يجعلهم يبتعدون عن حالة التناغم الأصلي مع المحيط والذات والإنسان الآخر.

تبقى اللوحة التقليدية التي تظهره وهو على ظهر الجاموس الذي تقول الرواية التقليدية بأنّه كان مطيّته التي خرج بها من المدنيّة الصينية ليعتزل العالم، تبقى رمزاً لهذا الخروج الكبير، الفكري والجسدي الملموس، الذي يتوق إليه كلّ فردٍ أنهكته المفاسد والشرور والقوانين التي تزيد بازديادها شرّ البشر وليس العكس. في نظر لاوتسه، على كل إنسان العثور على التاو (الطريق)، وهذا التاو هو الذي يفوق الأخلاق ومظاهر اللُّطف البشري والطقوس، وهي الأمور التي يقدّسها البشر ويحرّفونها ويجدون لها المعاني التي تناسبهم بحسب ظروفهم المتحوّلة.

لم يستطع أحد تفسير التاو، فهو غير المعرَّف، هو كلّ شيء واللا شيء، ولكن المهم أنه هو الذي يعيد للإنسان حقيقته وتناغمه مع نفسه ومع الآخر، وعندما يجده الإنسان ليس عليه أن يصفه أو يسجّل ملامحه، فهو حقيقةٌ تُعاش حدسيّاً، وليس مقتنىً يُمتَلَك.

ما سبق هو مجرّد لمحة أولية شديدة البساطة عما فهمته عن التاو في ضوء المسيح، الذي هو الطريق والحقّ المتجسِّد، الذي كان الانسحابيّ العامل بعمق، البسيط الذي سبر أغوار تعقيد الإنسان، الكلمة الأجمل والأكثر جلاءً والتي لم تتعرّض كلمة أخرى للتشويه بقدرها، السُّلطة القلبية التي صُنِعت باسمها أعتى السُّلُطات والسّجون العقلية الجامدة. المسيح كان التاو، الطريق، الذي ألمح له القدماء، فكم وجدت كتاب التاوية “التاو تي تشينغ” يصلح كمقدّمة لإنجيل يوحنا! وكم وجدت المسيح تجسيداً للطريق الذي تلمّسه الأقدمون! وكم رأيتُ أنّنا اليوم عدنا إلى مرحلة ما قبل القدماء من حيث الجهل، فحوّلنا البساطة لـ”عقيدة بساطة” زادت التنظيمات المعقَّدة الكثيرة “تنظيمات بسيطة” أخرى إلى جانب سابقاتها ، ولم نعرف أن البساطة تأتي بأقلّ قدرٍ من العمل والتعمير والتنظيم والكلام والوعظ!

الكلمة القويّة تُقال مرّةً فتحيا للأبد في قلب السّامع محبّ المعرفة، فكم نحن اليوم نقول الكثير ولا يصل إلا القليل، إن وصل؟!

كم ظنّ العالم المسيحي أنه يبني مجد الله في الحضارة، وهو لم يدرِ أن كلّ مسمارٍ يدقّه في حائط صرحٍ تنظيمي، دينيّ أو إداري، قد يكون حجر عثرة في “الطريق”!

يرى لاوتسه أنّ “الإنسان الحق مستقلٌّ ومتواضع، ويبدو للعالم مربِكاً…”. نعم، هو مربكٌ لأنّه مختلف جذريّاً في المبدأ والهدف، عن كلّ ما يسير حوله، فكلّ شيءٍ مقيّدٌ بالأغلال، كلّ الحقائق أصبحت منهجيات ووصفات جاهزة، “[فـ] كل الناس تجهِد عيونها وآذانها، ومع ذلك يبقى الإنسان الحق كالطفل.”، هكذا يقول لاوتسه، وكم يذّكرنا هذا الكلام بملكوت يسوع المسيح السّماوي الذي لن يدخله إلاّ الذين عادوا كالأطفال!

سيكون لنا مستقبلاً وقفات كثيرة مع لاوتسه، الذي عرف نتيجة أفعالنا منذ فجر الحضارة المدنيّة قبل 2500 عام، والذي كان راديكالياً لدرجة أنّه عرف أنّ خير الإنسان ليس في قوننة الخير في أخلاق وصروح ونُظُم، وإنما هو في الطريق المعاكس تماما:في الانسحاب الجماعي للحياة الطبيعية التلقائية البسيطة، فِكراً اولاً وجسداً ثانياً.

يتبع مستقبلاً…

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.