مقدّمة إلى علم التفسير الكتابي


بقلم فادي أبو ديب

مقدّمة

            ما هو علم التفسير؟  وما هي القواعد المبدئية الناظمة لتفسير أيّ نص وخصوصاً نصوص الكتاب المقدَّس؟  هل هنالك قواعد ثابتة لا تتغيّر أم أنّ قواعد التفسير تختلف باختلاف الزّمن؟  وما هي مؤهِّلات الذي ينخرط في هذا المجال؟

            لا ريب في أنّ علم التفسير هو من أكثر المجالات إثارةً للجدل، وجدله يتجاوز معاني النصوص ليؤثِّر في معنى الوجود ككلّ.  وتفسير الكتاب المقدَّس كان ولا زال من أكثر المواضيع الخلافية، بسبب كثرة الطُّرُق وتباين (وأحياناً تناقض) المبادئ التي يمكن الاقتراب بواسطتها للنصّ وقراءته.  كما أنّ علم التفسير هو من أكثر العلوم جِدّةً وحداثة، وهو الشُّغل الشاغل لعصر ما بعد الحداثة.

            هذه الورقة البحثية الموجزة تشكِّل نواة بحثٍ أكبر؛ فهي تتعرّض بشكلٍ عابر يثير عدّة أسئلة للنقاش، ويفتح عدّة أبوابٍ للتوسّع والجدال، وهي تناقش باختصار ماهية علم التفسير وأهميته، وبعض المؤهِّلات التي يجب على المفسِّر حيازتها، كما أنّها تضع لبنةً مؤلَّفة من سبعة مبادئ لنظم الأرضية اللازمة للانطلاق نحو النصّ.  وسيلاحظ القارئ الاقتباس المتكرِّر من عدّة مختصّين في هذا المجال، حداثيين وما بعد حداثيين، فالعصر الحالي يفرض عدم تجاوز أشخاص مثل فريدريك شلايرماخر، والذين (رغم بعض الاعتراضات على منهاهجهم) قدّموا بصيرةً لم يعد بالإمكان تجاوها في علم التفسير.

أولاً، تعريف علم التفسير

علم التفسير أو الهرمنيوطيقا هو علم متعدد الجوانب وقد يشير إلى أكثر من معنى واحد محدَّد؛ فهو علم يختص بتفسير معاني النصوص الأدبية والدينية والأعمال الفنية، ويمتدّ لتفسير الوجود الإنساني.  وفيما يخصّ تفسير الكتاب المقدس فمعنى علم التفسير لا يمكن حدّه بمجرّد اكتشاف معنى النصّ، لأنّ الغاية من التفسير الكتابي ووضع القواعد الناظمة له تتجاوز المعنى الذي يحمله النص، ولذلك يمكن القول بأنّ علم التفسير الكتابي يشمل عدداً من المعاني من ضمن طيف أوسع من معاني علم التفسير، حيث يمكن أن ينطبق عليه عدد من التعريفات تدلّ على أنّه علم تأويل النصوص المقدّسة، بعد الفهم اللغوي لطبيعة اللغة وتطوّرها، وصولاً إلى فهم معنى الوجود وظواهره وغاياته.[1]  ويرى حسني عبد العظيم بأنّ لهذا المصطلح علاقة بالفنّ من ناحية ما، فيشرح دلالات الإشتقاق اللغوي للمصطلح الإغريقي الذي يدلّ علم التفسير، فيشير بناءً على ذلك إلى أنّ لهذا العلم علاقة وثيقة بالفنّ مستشهداً برؤية فريدريك شلايرماخر، وذلك لأنه يستعمل الوسائل والتقنيات المختلفة ويطبّقها على النصوص من أجل “تحليلها وتفسيرها وإبراز القيم والحقائق التي تختزنها والمعايير والغايات التي تُحيل إليها.”[2]  فعلم التفسير الكتابي هو فنّ في جوهره، وهذا الفنّ يختصّ بإيصال رسالة الله الواردة في الكتاب المقدّس إلى الإنسان عبر مراحل الزمان.

ثانياً، أهمية علم التفسير

علم التفسير الكتابي مهمّ في المقام الأول لترتيب الخلفية الفكرية اللازمة لفهم أيّ نصّ، أو كما تقول صفاء جعفر بأنّ في التفسير مجال يتعلّق بما قبل الفهم وهو ضروري للفهم،[3] وهذا العلم موجود بشكل خاصّ من أجل فهم علاقة النصّ بالحياة المعاصرة والتحديات الحقيقية التي يضيء النص عليها.  وبدون علم التفسير الذي يهيِّئ الجوّ الملائم للبدء في تحقيق النص واستقصاء محتوياته وممعانيه ومضامينه يصبح النصّ عرضةً لضياع المضمون أو للتفسير التعسُّفي الذي يحيد بالقارئ بعيداً عن المقاصد والأسباب التي وُضِع من أجلها وبسببها.

ثالثاً، المؤهِّلات الضرورية للمفسِّر

“التفسير الكتابي” مصطلح مطّاط بطبيعته، وكلّ مفسّر مسيحي، تقليدياً كان أو محافظاً إنجيلياً أو متحرِّراً يعتبر أنه يقوم بنوع من التفسير “الكتابي”، لذا فيُستحسن النظر إلى هذا الموضوع من أكثر من وجهة نظر.

تختلف المؤهِّلات الضرورية للمفسّر في نظر الجهات المختلفة المنخرطة في هذا المجال، وذلك بحسب اختلاف اعتباراتهم لغاية التفسير وطبيعة الحقيقة وماهية النصّ؛ فالكنيسة الأرثوكسية مثلاً تعتبر أنّ المفسّر يجب أن يكون من المنضوين تحت لوائها، ومن المعترفين بإقرارات إيمانها والمسلِّمين بعصمة مقرّراتها الموجودة في التقليد، ويشرح يوحنا كرافيذوبولوس عن هذا الاندماج بين التفسير والوعي الجمعي للكنيسة بشكلٍ يعبّر عن صُلب المفهوم الأرثوذكسي لماهية التفسير فيعتبر بأنّ التفسير هو مهمّة الكنيسة ككل، والتي تخضع لسلطان الروح القدس العامل فيها عبر العصور.[4]  ويتفق جورج عطية مع هذا الرأي حين يعتبر أنّ التقليد الكنسي هو من يفسّر الكتاب.[5] وبالتالي يُستَنتَج من هذا بأنّ المؤهَّل للتفسير عند الكنيسة الأرثوذكسية (والكاثوليكية) ليس فرداً في الأساس، بل فرد متشبّع بالتقليد الكنسي بحيث يكون الوعي الجمعي للكنيسة حاضراً في وعيه.

وأمّا الكنائس الإنجيلية المحافظة فترى بأن الشرط الرئيسي المسبّق للانخراط في عملية التفسير هو أن يكون المفسِّر مولوداً من الروح القدس لكي يتمكّن من مقارنة الرّوحيات بالرّوحيات (1 كو2: 13)، معتمدين على ما يقوله أيضاً بولس الرسول بشأن جهالة الإنسان الطبيعي وعدم فهمه للأمور التي هي من روح الله، ولكن نظرة سياقية إلى مقولة بولس هذه تبيِّن أن بولس لم يكن يشير إلى تفسير النصوص الكتابية بل إلى قبول الحقّ المتمثّل بتجسّد ابن الله أو رفضه.  بالإضافة إلى هذا فإنّ الاختلاف الهائل في التفاسير بين الذين يقولون أنّهم متجدّدون يؤدّي إلى ضرورة البحث عن عامل حاسم آخر في إعطاء الشخص مكانة المفسِّر للنصوص الكتابية. 

من وجهة نظر معيّنة لا يمكن الإقرار بما تقرّه الكنائس التاريخية من وجوب حصر التفسير بالجسم الكنسي الخاصّ بها، لأن هذا الاعتبار يُفضي في النهاية إلى قدرٍ من المؤسساتية، فالكنيسة هي كيان روحي مؤلّف من المؤمنين بفداء المسيح مهما اختلفوا في باقي المواضيع، كما أنه يستثني هؤلاء الذين وجدوا أنفسهم بشكلٍ لاإرادي خارج هذه الأجسام الكنسية، ولكن من جهة أخرى لا يمكن الإقرار بحتميّة التجدّد بالمعنى المنتشر في بعض الكنائس الإنجيلية لأنّ هذا المصطلح بات يتّخذ معنىً طائفياً معيّناً، كما أنّه قد يؤدّي إلى الإقبال على اعتناق فكرة رومانسية تفيد بإمكانية أيّ شخص روحاني تفسير الكتاب المقدس.  فما يؤكّده الواقع والتاريخ هو انّ المؤهّل للتفسير هو المسيحي الذي يحبّ المسيح ومملوء بالمحبّة لمعرفة الرسالة الإلهية، ممتلكاً في الوقت ذاته المقدرة الفكرية والعلمية اللازمة، وكثير من الأشخاص ممن لا يُعتَبَرون اليوم بالمقياس الإنجيليّ التقليدي “متجدّدين” قدّموا بصيرة روحية فذّة حتى على مستوى الكشوفات الروحية المتميّزة، وبالتالي فإنّ المؤهِّل للتفسير هو صاحب المقدرة الفكرية والعلمية العالية التي يسيطر عليها شغف فريد لمعرفة ماهية الإنسان والله في ضوء عمل المسيح. ويشير باسيليوس الكبير، وهو من أعظم آباء الكنيسة الأوائل، إلى أولوية العلم والاجتهاد في تفسير الكتاب فيعتبر أنّ المعرفة لا تتم من دون تدريس، لأن معرفة كل كلمة وكل حرف لاستقصاء المعنى الخفي هو الطريق الوحيد للتشبّه بالله.[6]  فالجهد الفِكري والعلمي هو من صلب الدعوة الإلهية للمفسّر ولا يمكن فصل الأمرين عن بعضهما البعض، ومن ناحية اخرى فإنّ المفسّر في العصر الحالي يجب أن يهتم بالدراسات التاريخية والأدبية، وإلّا فإنّه مهدَّد بالخروج من دائرة البحث والعلم المعاصر وانقطاع صلة الوصل بينه وبين الجوّ العلمي والشعبي العام.[7]  ومن ناحيةٍ أخرى فمن المستحسن أن يكون المفسِّر على دراية بفعل الكتابة وممارساً لها، لكي يتمكّن من فهم العالم الداخلي الكاتب ودوافعه والحالات النفسية التي تسبق وترافق حالة الكشف الإلهي، فرغم أنّه لا يوجد ما يثبت بأنّ الإبداع في الكتابة وآلية توارد الأفكار هما فعل كشف إلهي أو وحي بمعنى ما، لا يوجد في ذات الوقت ما ينفي أنّ يكون الوحي فعل داخي وليس خارجي (في معظم الأحيان على الأقل).

رابعاً، بعض المبادئ التفسيرية التي تحكم علم الهرمنيوطيقا الكتابية الحديث[8]

            تختلف المبادئ التفسيرية التي يمكن وضعها لقراءة وتفسير النصوص، بما فيها الكتاب المقدَّس، وبالرّغم من ذلك يمكن وضع بعض المبادئ الأوّلية الي يمكن أن تُثبِت بالنقاش أنّها مهمّة وتستحقّ الاعتبار.  وهذه المبادئ هي:

أ‌.         بحث العلاقة بين طبيعة الحقيقة ونص الكتاب المقدس: يجب على المفسِّر ان يسأل دائماً عن العلاقة بين الحقّ والمكتوب، فهل الحق هو المكتوب أم أن المكتوب يعبّر عن إرادة الحق فيما يخص البشر؟  ويشير يوحنا كرافيذوبولس إلى هذه الفكرة شارحاً ما يدور حولها في الكنيسة الأرثوذكسية: “يفرِّق اللاهوت الأرثوذكسي بين الحق، الذي هو الله نفسه كما أُعلن بيسوع المسيح وقد ’حلَّ بيننا‘ (يو14:1)، وبين تدوين الحقيقة الخلاصيّة في أسفار الكتاب المقدس”. وهذا التمييز يؤدّي بحسب ثيودور ستيليانوبولوس،  إلى وقاية سر الله من التماهي مع حرفية الكتابات، ويسمح بظهور خبرة الكتّاب ونظرتهم الخاصة للعالم.[9]  وعلى هذا فالحقيقة ليست موضوعية ومطلقة وإنما مجبولة بمفاهيم بشرية خاصة.  ومن ناحية أخرى فإنّ بعض النظريات التي قدّمتها مدرسة النقد العالي لا ينبغي أن تُفهَم بالضرورة أنّها تطعن في الحقّ وفي مصداقية الكتاب المقدَّس إلا لمن يعرِّف الحقيقة بطريقة معيّنة (تتفق غالباً مع نمط العقلانية الغربية الحديثة)، لذلك ربما يجب إعادة تعريف طبيعة الحقيقة وماهيتها للحصول على فهم أفضل للكتاب المقدَّس.

ب‌.     حقيقة وجود الإفتراضات المسبقة والعمل على الإحاطة بها: الإفتراضات المسبقة هي جزء من أنطولوجية الكائن البشري، فلا يوجد إنسان لا يمتلك مثل هذه الإفتراضات حول كلّ شيء، من أبسط الأمور اليومية حتى أعقدها، وإلا لأصبح جثّة هامدة.  ولذلك فعلى المفسِّر أن يتخلّى عن فكرة البحث حول حقيقة مجرّدة مطلقة موجودة في مكان ما.  يقول جيمس سوير بأنّ الوصول لحقيقة مطلقة بشكل حيادي بعيداً عن شخص الباحث هي فكرة ناتجة عن فلسفة عصر التنوير، وأنّ الدّارس دوماً يقرأ ويبحث انطلاقاً من تقليد معيّن، وحتى إن خرج منه لينقده فهو تلقائياً ينخرط في تقليدٍ آخر.[10]  وبالمختصر فإنّ المفسِّر لا يجب أن يعتبر بأنّ النتائج التي يتوصّل إليها حقائق مطلقة بل هي معبَّرة عن جوانب من الحقيقة التي هي الله نفسه، أو عن فاعلياتها وقواها، لأنّ “معرفتنا لا يمكن أبداً أن تكون أكيدة بالمعنى الذي يعطيه عصر التنوير.”[11]  كما أنّ ما يتحدّث عنه شلايرماخر حول ضرورة تحييد كل الافتراضات المسبقة لاكتشاف وعي الكاتب- وبالتالي المعنى- هو أمر غير ممكن عملياً بحسب جون جيفرسون ديفس.[12]

ت‌.     دراسة طبيعة اللغة: على المفسّر ان يعي جيداً أنّ الكلمات البشرية محدودة ولا يمكن أن تعبّر عن كامل الحق كما هو في ذاته وإنّما كما يمكن للبشر أن يتعرّفوا على مفاعيله، فالكلمات لا يمكن أن تنقل الحقّ كما هو في ذاته لأنها بشرية، كما أنّ معاني الكلمات مُسنَدة إليها بفعل الخبرة البشرية، وهي تتغيّر على مرّ الأزمنة؛ فكثير من الكلمات تغيّرت معانيها، وكلّ معنى من هذه المعاني اكتسب مضمونه انطلاقاً من خبرة بشرية جمعية، ولذلك فالكلمات قاصرة عن إيصال الحق كما هو في ذاته، ولكن الكلمات هي وسيلة الله لكي يستطيع الإنسان أن يعيش في الحق وبإلهامٍ منه، وكما يعتبر أغسطينوس فإنّ المعرفة أهمّ من العلامات التي تقوم بإيصالها.[13]  ويتفق جيمس سوير مع فيرون بويثرِس بأنّ الكلمات ليست أداة شفافة يُرى العالم من خلالها كما هو كما هو، بل هي تقحم على الواقع تصوّرات وافتراضات معيّنة، وهي ليست كاملة.  فالكلمات ليس لها معنى مطلق في حد ذاتها عندما تكون خارج السياق التي تأتي فيه.[14] 

ث‌.     دور الطبيعة الإنسانية والسياق العام وبيئة النصّ: إن كتابة أي سفر من أسفار الكتاب المقدس وأي عبارة من عباراته لم تحصل بمعزل عن الطبيعة الإنسانية وأطوارها النفسية المختلفة وعلاقاتها الاجتماعية المتشعّبة، وبالتالي فإنّ التقدّم نحو النص يجب أن يتمّ مع الأخذ بعين الاعتبار طبيعة الكاتب ومجتمعه وموقفه فيه ومنه، والتي يمكن استيضاحها من معرفة الظروف التاريخية والثقافية المعاصرة لذلك الزمان.  ويعبّر شلايرماخر عن هذا الواقع الإنساني المعقّد ودوره في صناعة النص ومن ثمّ فهمه، فيشرح بأنّه لا يمكن فهم أي نص مكتوب إلا بفهم البيئة الفكرية والنفسية التي أخرجته إلى الوجود بالإضافة لعلاقة الكاتب بجمهوره.[15]  وبالمختصر، فإنّ النصّ مولود من تفاعلات كثيرة وليس مخلوق من العدم.

ج‌.      التركيز على جوهر الرسالة : يجب على المفسّر أن يضع نصب عينيه حقيقة أنّ للكتاب المقدس رسالة جوهرية واحدة، ويعبّر يوحنا كرافيذوبولس عن هذه الحقيقة فيشرح بأنّ كل التقليد الآبائي التفسيري يتمركز حول نقطة الفداء مهما اختلفت أشكال التعبير وامتدادات هذه الحقيقة.[16]  وكما يعتبر فريدريك شلايرماخر بأنّ الكتابات المقدّسة هي أيضاً مكتوبة لكي تصل للمبتدئين والأطفال وغير العلماء من خلال هذا الجوهر،[17] كذلك يمكن القول بأنّ جوهر الرسالة المسيحية في الكتاب المقدس لا يمكن أن تكون عثرة بالنسبة إلى ثقافة ومفضّلة بالنسبة إلى ثقافة آخرى، فرسالة الله يجب أن تتجاوز في جوهرها الثقافات، وتخاطب أعمق أعماق الكيان الإنساني الذي يبقى متماثلاً عند كل البشر مهما اختلفت ثقافاتهم، حيث أنّ الإنسان يبقى باحثاً عن الفداء والخلاص. 

ح‌.      تمييز الأنواع الأدبية المختلفة: الكتاب المقدس ليس كتاباً متجانساً من الناحية الأدبية، بل هو مؤلَّف من كتابات تندرج تحت أنواع أدبية مختلفة، سواء كان هذا الاختلاف بين سفر وآخر أو بين مقاطع معيّنة في السِّفر الواحد. وهذه الأنواع الأدبية المختلفة من شعر أو نثر شعري أو أدب حكمة أو رسالة أو سيرة تختلف من حيث البنية الأدبية والبيئة النفسية والمنتجة لها، كما تختلف من حيث استعمال اللغة والتراكيب، وبالتالي المعنى فيها يختلف بحسب التركيز على الكلمات نفسها أو على الصور الكلامية وما إلى ذلك.

خ‌.      حسن النيّة: يُعتَبَر هذا المبدأ من المبادئ الأخلاقية التي يقوم عليها التفسير، ورغم أن عالم النقد الأدبي الحديث قد لا يعترف به كمبدأ حقيقي من مبادئ فهم النصّ، إلّا أنه يستحقّ الإلتفات؛ فكما أنّه من الأخلاقي أن يتحلّى الإنسان في المجتمع بقدر من حسن النيّة وعدم افتراض كذب الطرف الآخر في تعاملاته، وكما أنّ الوقائع تثبت أنّ امتلاك التفكير السلبي مدمّر للفرد والجماعة والعمل، فكذلك يجب الاقتراب من النصّ بحسن نيّة من حيث الافتراض بأنّه موضوع لإخبار القارئ بشيءٍ مفيد، وأن كتّاب الكتاب المقدّس لم يكتبوا لخداع الناس، وخاصةً أن سير حياتهم لا تشي بنواحي سيئة بل على العكس.  ويدعم أغسطينوس هذا المبدأ بتشجيعه على فضيلة المحبة عند الاقتراب إلى النص.[18] ومن جهة أخرى فإنّ على المفسِّر الذي يهمل هذا المبدأ ويتقدّم إلى النصّ مفترضاً مسبقاً احتواءه على خداع أو أكاذيب أو تلاعبات معيّنة، عليه أن يقبل باحتمال أنّ عمله التفسيري نفسه يمكن أن يُقرَأ بنظرة مسبقة تفترض احتوائه على أضاليل متعمّدة أو عدم إخلاص في البحث.

 

الخاتمة والإستنتاج

            عُنيَت ورقة البحث هذه بتقديم مقدِّمة إلى علم التفسير الكتابي، مناقِشةً باختصار ماهية هذا العلم وأهميته، مستعرضةً في الوقت نفسه مبادئ للحكم في مسألة مؤهِّلات المفسِّر، وواضعةً لبِنة مبدئية لبعض مبادئ التفسير.  وقد ظهر بأنّ علم التفسير هو فنّ تأويل النصوص الكتابية لاستخراج رسالة الله للناس منها، وتكمن أهميّته في أنّه الطريق الأسلم لمعرفة ما تقوله النصوص لمعاصريها ولإنسان اليوم.  كما تمّ الاستنتاج بأنّه من الأفضل أن يكون المفسِّر “هو صاحب المقدرة الفكرية والعلمية العالية التي يسيطر عليها شغف فريد لمعرفة ماهية الإنسان والله في ضوء عمل المسيح.” متمكِّناً من عمل الكتابة لكي يكون قادراً على تخيّل الحالة الذهنية للمؤلِّف ودوافعه.  وقد وُجِد أنّ من مبادئ التفسير الكتابي الأولى بحث العلاقة بين طبيعة الحقيقة ونص الكتاب المقدس، والاعتراف بحقيقة وجود الإفتراضات المسبقة والعمل على الإحاطة بها، بالإضافة إلى دراسة طبيعة اللغة ودور الطبيعة الإنسانية والسياق العام وبيئة النص، والتركيز على جوهر الرسالة التي هي الفداء والخلاص، من دون نسيان ضرورة تمييز الأنواع الأدبية المختلفة، والتحلّي بحسن النيّة عند الاقتراب من النصّ.

            إنّ فهم ماهية هذا العلم المهم (علم التفسير) وأهميّته، بالإضافة إلى فهم مؤهِّلات المفسِّر ومبادئ التفسير، هي أمور ذات قيمة حاسمة في حياة الكنيسة والمجتمع المسيحي، فهذه الأمور هي التي ستحدّد هويّة الكنيسة ومستوى تفكيرها ونظرتها للإنسان والله والعالم المعاصر والوجود ككلّ.  كما أنّ إهمال التجديد وإعادة النظر في سلامة المبادئ التفسيرية على ضوء المتغيّرات في الوجود الإنساني (إعادة النظر لا تشمل التطبيق فقط بل قد تشمل المبدأ التفسيري نفسه) يؤدّي إلى فقدان الكنيسة لشهادتها وإمكانياتها لمواكبة الوجود الإنساني.  ويبقى هذا الموضوع مسرحاً لنقاشٍ لا يمكن أن ينتهي.

 

 

 

 


 

[1]صفاء عبد السلام علي جعفر، هيرمينوطيقا “الأصل في العمل الفني”: دراسة في الأنطولوجيا المعاصرة، 28.

[2]حسني ابراهيم عبد العظيم، “الهرمنيوطيقا والوعي التاريخي: قراءة في ’إشكاليات القراءة وآليات التأويل‘،”  موقع سماحة آية الله الفقيد السيد حسين السيّد اسماعيل الصدر، 8 آذار 2012؛ تم الحصول علييها في 4 آب، 2013.  متوفرة من:

<http://www.husseinalsader.org/inp/view.asp?ID=5701&gt;.

[3]جعفر، 27.

[4]يوحنا كرافيذوبولوس، “تفسير الكتاب المقدس في الكنيسة الأرثوذكسية،”  تعريب جورج برباري؛ موقع شبكة القديس سيرافيم ساروف الأرثوذكسية؛ تم الحصول عليها في 5 آب، 2013.  متوفرة من:

<http://www.serafemsarof.com/mag/index.php?option=com_content&task=view&id=43&Itemid=134&gt;

[5]جورج عطية، “التسليم والكتاب المقدس،” موقع Orthodox Online؛ تم الحصول عليها في 9آب، 2013. متوفرة من:

< https://www.orthodoxonline.org/theology/faith-and-orthodox-theology/paradosis-the-holy-church-tradition/350-tradition-and-the-holy-bible&gt;.

[6]كرافيذوبولوس، “تفسير الكتاب المقدس في الكنيسة الأرثوذكسية”.

[7] Kevin J. Vanhoozer, Is There Meaning in This Text? : The Bible, The reader, and the Morality of Literary Knowledge, 24.

[8]لا يعتبر كاتب هذه الورقة أنّ “سلطان الكتاب المقدس” هو من المبادئ التفسيرية، لأنّ هذا المفهوم يرتكز في الأساس على نتيجة دوغمائية، أيّ أنها نهاية وليست بداية.  وهذه المتيجة تتضّح كما لخّصها فريدريك شلايرماخر بشكل رائع:

“سلطان الكتاب المقدّس لا يمكن أن يكون أساس الإيمان بالمسيح، وإنما يجب أن يكون هذا الأخير هو الفرضية المسبَقة قبل أن يكون في الإمكان منح تلك السلطة المميّزة للكتاب المقدّس.”  وإن بدا أنّ هنالك اعتراضٌ مفاده أنّ المسيحي يعرف عن المسيح من خلال الكتاب المقدس ذي السلطان، تتبدّى الحقيقة الواقعة وهي انّ الإيمان بالمسيح سبق وجود الكتاب المقدس (العهد الجديد بالأخصّ)، لا بل أنّه هو كان الدافع الرئيسي والوحيد لكتابته، فالإيمان في منشاه يقوم على الإعلان والتراث الشفهي.

Friedrich Schleiermacher, The Christian Faith, edit.  H. R. Mackintosh and J. S. Stewart, 591 (sec. 128).

[9]يوحنا كرافيذوبولوس، “تفسير الكتاب المقدس في الكنيسة الأرثوذكسية”.

[10]M. James Sawyer, The Survivor’s Guide To Theology, 90, 93.

[11]Ibid., 93.

[12]Cf. Friedrich Schleiermacher, On Religion: Speeches to its Cultured Despisers.  Translated  by John Oman, 26; Sawyer, 95

[13] Vanhoozer, 31. 

[14]Sawyer, 95. ورغم ذلك يجب الانتباه بأنّه وضمن نفس السياق قد تعني العبارة أكثر من معنى واحد، لأن المعنى هنا يتعلّق بالنبرة  وطريقة الكلام (استقهام، سخرية، تحذير…إلخ).  هذا الاعتبار لا يعني الوقوع في فخّ التفكيكية Deconstructionism بحيث يصبح القارئ هو خالق النص والمعنى.  يمكن مراجعة ماهر شفيق فريد، “في فلسفة اللغة: حول جدل دريدا وأوستن وسيرل،”  جاك دريدا والتفكيك، تحرير أحمد عبد الحليم عطية، 239-54.

[15]Friedrich Schleiermacher, Brief Outline, 58 (sec.140), quoted in Richard Crouter, Friedrich Schleiermacher: Between Enlightenment and Romanticism, 32.   

[16]يوحنا كرافيذوبولوس، “تفسير الكتاب المقدس في الكنيسة الأرثوذكسية”.

[17] Schleiermacher, On Religion, 34.

[18]Vanhoozer, 32.

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.