كيف نقرأ الكتاب المقدَّس ونفهمه؟


بقلم فادي أبو ديب

لا ريب في أن  أغلب القارئين من خارج الوسط الكنسي يجدون مشكلةً كبيرةً في إيجاد التوافق بين العهدين القديم والجديد، وفي فهم العلاقة بينهما. ومن خلال المشاهدة والملاحظة والنقاش يتبين أن ذلك يكون إما بسبب عدم قراءة الكتاب المقدَّس البتة، أو بسبب استنساخ وجهات نظر مسبقة فيما يختص بالعلاقة بين العهدين. فقلة قليلة جداً قرأت الكتاب المقدَّس كاملاً، وحفنة تكاد لا تُذكَر من هذه القلة قرأت الكتاب المقدَّس بشيءٍ من الروية والتمعُّن.

أما في الوسط الكنسي فيوجد شيء من الإهمال لأجزاء كبيرة من العهد القديم والجديد، وأجرؤ على القول أن بعض مؤمني العهد القديم كان لديهم نظرة أوسع من بعض الجوانب من كثير من روّاد الكنائس والمؤمنين اليوم.

لا أرغب في أن أفرض وجهة نظري ولكني أجد أن طريقة حفظ واعتماد بعض المقاطع من الكتاب المقدَّس والاكتفاء بها كموجِّه للحياة هي طريقة مجتزأة وغير كافية. فالكتاب المقدَّس ليس مهدِّئاً نفسياً، بل هو كلمة الله التي من المفترض أن نعرفها وندركها بالعمق ليتم تشرُّبها في أرواحنا وتسكن في قلوبنا فنملك رؤيتها للذات البشرية ولمعنى الوجود وللعالم المحيط ولمسيرة التاريخ. فلا يمكن لنا أن نملي وجهة نظرنا المسبقة على العهد الجديد أو العهد القديم قبل قراءته. ورغم أن ما سأقترحه الآن سيبدو وكأنه وجهة نظر مسبقة ، إلا أنني أزعم بأن فيها عدداً أقل من الافتراضات المسبقة الدخيلة على النص، وبالتالي هي أكثر تلقائيةً وقرباً إلى طريقة المسيحيين الأوائل. وأرى كما يفعل الكثيرون بأنها أسلم من افتراض نظريات فلسفية معينة للعلاقة بين العهدين.

كلمة الرب هي تاريخ خلق وتعاملات الله مع العالم والإنسان والخليقة، فإن لم نقرأ الكتاب المقدَّس بالترتيب منذ أول فصل من سفر التكوين وحتى آخر فصل في سفر الرؤيا، فإن رؤيتنا ستبقى منقوصة. فحريٌّ بنا قبل أن ندخل في تاريخ الفداء، أن نتأمّل في بدايات خلق الكون والإنسان لنتفكَّر في القصد الإلهي الذي ابتغاه لهذا العالم والإنسان المخلوق على صورته ومثاله، متجهين نحو غضب الله الساحق في أيام نوح ونعمته عليه، ثم نبدأ الترحال مع ابراهيم المختار ويوسف البارّ. من المهم جداً أن نتأمَّل في  الشريعة الرائعة التي منحها الرب لموسى، وأن نتأمّل في تفاصيلها متسائلين عن المقاصد والغايات، مركِّزين النظر في سموّها وترتيبها الباهرين. فكم  هو جميلٌ أن نعيد النظر في هدف الرب من السبت المقدَّس (يوم الراحة). وأن نسائل أنفسنا هل من العبث وضع الرب هذا الترتيب للإنسان والحيوان والحقل؟ وهل كان للرب رؤيته الخاصة لحياة الإنسان وثقافة عمله واحترامه لجسده ولوقته؟ فكم هو مثيرٌ أن نستكشف نقاطاً مضيئةً كانت مخبَّئةً عنا منذ القديم.

رفقة الأنبياء هي أيضاً رحلة ممتعة مثيرةٌ أيضاً، مفرحة ومحزنة. ماذا لو جرّبنا أن نعود بأنفسنا لنتشارك معهم الطريق، صراعاتهم، آلامهم، مخاوفهم، هواجسهم، أشواقهم، مسيّاهم الغامض المنتظر. جميلٌ أن نجرِّد أنفسنا من بعض المعرفة لنتحسس ما عاشوه وما اختبروه وما تطلّعوا إليه. كيف نظروا إلى العالم والتاريخ ومصائر الشعوب والأمم. كيف قاوموا وعانوا النبذ الاجتماعي والحيرة والضعف والوصول للدرك الأسفل من القنوط. فنشهد كثيراً من الحوادث التي نختبرها في واقع حياتنا. فها هو إرميا مثلاً يصرخ كئيباً- كما قد يحدث مع كل منّا- “ملعونٌ اليوم الذي وُلدت فيه. اليوم الذي ولدتني فيه أمي لا يكن مباركاً” (إرميا20: 14). ونسمع إيليا يطالب الرب بأن يأخذ حياته (الملوك الأول19: 4). وربما نجد أنفسنا نعاتب الرب مع حبقوق النبي ولسان كل منا يسأل “لمَ تريني إثماً وتُبصِر جوراً، وقدّامي اغتصابٌ وظلمٌ، ويحدث خصام وترفع المخاصمة نفسها؟” (حبقوق 1: 3). وبالعودة لنظرة الأنبياء، فلنقف متسائلين، ألسنا نحن اليوم أقل اهتماماً بإرادة الله للعالم ككل؟ لقد حبسنا أنفسنا في بعض العبارات التي نرددها، وسجنّا عقولنا في سجن أنانية تريد من الرب بضع بركات آنية، متناسين محاولة فهم إرادته للعالم، غاضّين النظر عن انتظار ملكوته المجيد الآتي، مخدِّرين ذواتنا ببضع عباراتٍ عن سماء هلاميةٍ ضائعةٍ في بحر تجاهلنا لكلمة الله. نعم لقد كان لديهم شوقٌ ورؤية لعالمٍ أفضل يحكم فيه المسيح، عالمٍ فيه سماوات جديدة وأرض جديدة، عالمٌ لنا نحن، نعيش فيه نحن. عالمٌ يكون فيه البرّ هو السيد، والعدل هو السائد، والفرح هو الصوت الأعلى. هل من المعقول أن يكون لمؤمني اليوم أملٌ تائه وأقل وضوحاً من مؤمني العهد القديم وأنبيائه؟ لا يجب أن يكون هذا، فهلمّ نرافقهم ونفهم صراعاتهم ونشاركهم أشواقهم، لكي نفهم حقاً عظمة مجيء يسوع الناصري المسيح عندما ننتقل لقراءة أناجيل العهد الجديد، متنقّلين خطوة خطوة مع معلِّمنا الأوحد في الجليل واليهودية والسامرة، نعيش معه يوماً بيوم وحدثاً بحدث، ملاحظين كيف كان يتمم العهد القديم، مستعملاً ذات طريقة الأنبياء القدامى مع أنه أعظم منهم بما لايقاس، فهو صاحب السلطان في السماوات والأرض. كما تنفتح أعيننا بعد رحلة العهد القديم المشوِّقة والغامضة على الانقلاب الشامل الذي حققه يسوع في مفهومه ومقصده الأزلي للإنسان. لقد عاش وعمل كإنسان كامل، كسَّر كثيراً من المفاهيم، وأثلج صدور المساكين وكسيري القلوب، وأعاد الأمل بإمكانية التغيير وخلق الإنسان الجديد المولود من العُلى، الذي ينظر إلى العالم بطريقة يسوع المسيح- بنبوية. وما أحوجنا اليوم للأنبياء وأصحاب الرؤى الإلهية الذين يدركون مشيئة الرب للعالم والكنيسة.

عندما نفهم العهد القديم جيداً سنفهم بشكل أفضل جداً حياة يسوع ومهمته وتعاليمه. وسنننبهر مع سمعان الشيخ لرؤية الطفل يسوع، وسنفهم ما تكلّم عنه بولس في رسالة رومية حول الناموس وإنجيل النعمة والفداء. سنفهم أيضاً عن مجيء الرب الثاني وعلاماته، فإدراك هذه المقاطع لا يمكن أن يحدث بصورة أوضح من دون العودة لنبوءات حزقيال وإشعياء وميخا وزكريا ويوئيل وإرميا ودانيال وغيرها. كما لا يمكننا فهم كثير من مقاطع العهد القديم من دون العودة لكلمات ربنا يسوع المسيح وتلميحاته، وحتى لحظات صمته وإحجامه عن الدخول في التفاصيل.

يجد البعض صعوبةً في فهم بعض المواضيع المختصة بنهاية الأيام، وهذا طبيعي. أولاً بسبب صعوبة الموضوع ونصوصه، وثانياً بسبب الوقوع في فخ الفصل بين العهدين وعدم التعامل معهما بتلقائية، ومحاولة استنطاق كل منهما بما لايقوله اعتماداً على فرضيات مسبقة. فكما أن العهد الجديد لا يمكن فهمه بالإبقاء على متطلبات الناموس، هكذا العهد القديم لا يمكن فهم كل جزئياته باختصاره كله بحدث المجيء الأول للمسيح. أما صمت بعض نصوص العهد الجديد عن أحداث معيَّنة، فلا يمكن استيعابه إلا بإدراكنا أن بعض هذه المفاهيم يجب أن تكون بديهيات مستمرّة منذ أيام العهد القديم ليس من الضروري العودة مرة أخرى للتوكيد عليها والحديث عنها. فلا يمكن مثلاً أن يعود العهد الجديد ليتحدّث عن تفاصيل خلق الله للكون كما في تكوين 1و2، فهذه بديهية وأساس تم البناء عليه. إذاً نحن بحاجة أكثر إلى العودة للتوكيد على ضرورة دمج نظرتنا للعهدين كرواية واحدة تسجِّل تاريخ العالم ومنشأه وغايته والمآل الذي سينتهي إليه. علينا كمسيحيين أن نمتلك هذه النظرة البعيدة والمرتفعة فوق مشغوليات الحياة المعاصرة، لترى ما هو أبعد من اليوم الحاضر، ولندرك من أعماق القلب إلى أي جهة نحن ذاهبون وإلى أي مصير نحن منتهون. فلا يجوز أن نحصر مسيحيتنا في بعض التسابيح والممارسات والنشاطات والشعارات الرنانة.

ماران آثا

جزء من مقالة “التكامل بين العهد القديم والعهد الجديد- الجزء الثاني” عن مدونة يسوع مخلِّص العالم

www.jesustheonlylord.jeeran.com




أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.