عن الزواج والمساكنة: نظرة مسيحية مختلفة


بقلم فادي أبو ديب

8-9-2013

الزواج بحسب الكتاب المقدَّس هو أوّل تنظيم مجتمعي أسّسه الله بنفسه بعد خلق الإنسان، ويبدو من سفر التكوين أنّ العملية الجنسية كانت متضمَّنة في هذا العهد الإلهي بين الرجل والمرأة، حين أمرهم إيلوهيم بالنموّ والتكاثر (تك 1: 28).  ولكنّ الزّواج اليوم بات من أكثر الظواهر الاجتماعية تعرُّضاً للانحلال والهجوم، وخاصةً في المجتمعات المتقدِّمة في أوروبا وأمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية، حيث بات الزواج في بعض الدُّوَل نادراً وارتفعت نسبة الطلاق بالنسبة للزواجات الحاصلة، وانتشرت ظاهرة المساكنة والتي يقوم فيها الشاب والفتاة بالسَّكَن مع بعضهما البعض بدون رابط زواج تقليدي دينيّ أو مدنيّ.  ومع ذلك فيمكن النظر إلى الموضوع من ناحية أخرى، هل هنالك طريقة معيّنة للزواج؟  وهل المساكنة هي انقلاب على الزواج أم شكل عصريّ له؟  وعلى هذا، فهل يكون الجنس ضمن المساكنة عملاً خارج نطاق الزواج أم أنّه حالة شرعية في عصرٍ تغيّر فيه شكل الزواج ببساطة؟

سيتناول هذا البحث موضوعيْ الزواج والمساكنة من زاوية أكثر واقعيةً، تتعامل مع الموضوع بجدّيّة، من دون التغاضي عن الأساس الكتابي لمفهوم الإتحاد الإلهي بين الرجل والمرأة، ولكن من دون تناسي أنّ الموقف الأخلاقي يجب أن يحاول أن ينظر إلى الواقع كما هو وليس فقط كما يجب أن يكون.

أولاً، الزواج في المفهوم الإلهي

            لا يَرِد مفهوم الزواج كما هو معروف في الأديان أو في المفاهيم المدنية الحديثة في الفصل الأوّل من سفر التكوين، بل تظهر العلاقة بين الرجل والمرأة كاتحّادٍ وثيق بينهما، معيَّن بطريقة إلهية بحيث يترك الرجل حياته القديمة عند والديه ويذهب ليأخذ بيد امرأته ليبدأ معها حياته الجديدة، مشكِّلاً وإيّاها اتحاداً يشبّهه الكتاب المقدَّس بالجسد الواحد (تك 2: 24).  هذا الجسد الواحد يلغي حالتهما قبل هذا الاتّحاد كشخصين منفصلين تماماً.  ولكن يسوع المسيح يضفي بُعداً أعمق على هذا الاتحاد الذي يظهر باسم “الزواج” في العهد الجديد، كإشارة أيضاً للزواج في المفهوم اليهودي في العهد القديم، حيث يبيّن يسوع بأنّ هذا الاتّحاد عميق لدرجة لا تجعل إنهاءَه أمراً سهلاً أو حتى ممكناً إلّا بالموت (بحسب البعض)، فبحسب يسوع المسيح فإنّ الله نفسه هو من كوّن هذا الاتحاد وهو من جمع الرجّل بالمرأة ليكونا جسداً واحداً (مت 19: 4-6).

            في هذا الاتحاد بين الرجل والمرأة بحسب المفهوم الإلهي على الرجل أن يحبّ إمرأته كنفسه، بل لدرجة التضحية، تماماً كما أحبّ المسيح الكنيسة وبذل نفسه لأجلها (أف 5: 25، 33؛ كو 3: 19)، وكذلك فإنّ على المرأة واجب الخضوع في محبّة، ووهب نفسها للرجل كما يهبها الرجل نفسه (1 بط 3: 1؛ أف 5: 24، 33).  ومن ناحية أخرى أدّى هذا المفهوم الإلهي للزواج، كما هو وارد في العهد الجديد خصوصاً، إلى إثراء الحضارة الإنسانية فيما يتعلّق بمفهوم الحبّ والعلاقة الروحانية بين الرّجل والمرأة، ولعلّ هذا يتضح بشكل خاص في الحركة الرومانسية التي قامت في القرن التاسع عشر والتي تتجذّر بشكل كبير في الروحانية المسيحية، فها هو فريدريك شليغل يعتبر بأن هذا الحبّ بين الرجل والمرأة يجعله يحبّ الكون بكل روحه، وأمّا نوفاليس فيرى أنّ الحبّ دين المحبّين (ريكاردا هوخ، الرومنطيقيون الألمان، الجزء الأول، ترجمة عبود كاسوحة، 212)  ورغم الكثير من المبالغات في النظرة إلى العلاقة بين الرجل والمرأة إلّا أنّه من الواضح أنّ المفهوم الإلهي لهذا الاتحاد بينهما قد ساهم بما لا يدع مجالاً للشكّ في الارتقاء بالعلاقة بين الرجل والمرأة في الأماكن التي كان للكتاب المقدس فيها انتشار واسع واحترام كبير.

ثانياً، المساكنة: ماهيتها، أسباب نشوئها ومدى شرعيّتها

            المساكنة هي ظاهرة اجتماعية بدأت تطفو على السطح في الكثير من بلدان العالم في العقود الأخيرة، وهي ظاهرة تقوم على السَّكَن المشتَرَك بين الرجل والمرأة (وحديثاً بين المثليين) من دون زواج دينيّاً كان أم مدنيّاً.  وقد تحوّلت المساكنة تدريجياً إلى ظاهرة مقبولة اجتماعياً في المجتمعات التي تنتشر فيها، لا بل أنّ الكثيرين باتوا يفضّلونها على الزواج ويدافعون عن أفضليّتها، وذلك بسبب ارتفاع معدّلات الطلاق في تلك المجتمعات.[1]  وقد تفاوتت الدراسات الاجتماعية التي ترصد هذه الظاهرة بين مشجِّعٍ لها ومحذِّرٍ منها؛ فبعض الدراسات أشارت إلى أنّ حالات الزواج التي تسبقها المساكنة تكون أكثر عُرضةً للانهيار والطّلاق، ولكنّ دارسين آخرين يشيرون إلى أنّ الموضوع يتعلّق أصلاً بنوعية الأشخاص الذين يختارون المساكنة، والذين يكونون عادةً من غير القادرين على إدارة زواج ناجح لأسباب تتعلّق بخلفيتهم الثقافية أو العائلية، وبالتالي فإنّهم غير قادرين على الاستمرار الناجح في المساكنة، فكيف إذاً في الزواج!  بالإضافة إلى وجود أخطاء أخرى في عملية قياس المعدّلات، مما يجعل المقارنة بين نسب انهيار حالات الزواج التي لا يسبقها مساكنة وتلك التي يسبقها غير دقيقة ولا عادلة.[2]

            ولذلك فإنّ بعض الدراسات الحديثة- رغم أنّها غير نهائية باعتراف القائمين عليها- تشير إلى أنّ لا مؤشّر حقيقي يشير إلى أنّ المساكنة تؤثّر سلباً على الزواج أو أنّها تحسّن منه، فالأمران منفصلان.[3]  وتشير شارون جايسون إلى أنّ بعض الأبحاث القديمة أشارت إلى الفارق الكبير بين نجاح حالات الزواج التي لا تسبقها مساكنة وتلك التي تسبقها مساكنة، وذلك لمصلحة الخيار الأول، ولكنها تقول أنّ هذا الواقع يتغيّر الآن.[4]  ويبدو أن السبب في هذا يكمن في أنّ الذين كانوا يلجؤون إلى المساكنة قديماً هم من غير المؤهّلين للقيام بعلاقات ناجحة من الأساس، وأمّا في هذا العصر فقد تغيّر الوضع، وبدأت الحالة تصبح أكثر شيوعاً حتى بين الأشخاص الملتزمين والجدّيّين، وهذا يوافق نتيجة البحث أعلاه.  وتشير عالمة الإجتماع باميلا سموك من جامعة ميشيغان إلى أنّه استناداً للإحصائيات فلا يوجد أثر سلبي للمساكنة على الزواج اللاحق لها، وهذا ما يوافق عليه عالم الإجتماع بول أماتو من جامعة ولاية بنسلفانيا استناداً إلى الإحصائيات الحديثة.  وهكذا تخلص شارون جايسون إلى نتيجة مفادها أنّ “الأزواج الذين يعيشون معاً قبل الزواج وأولئك الذين لا يفعلون يمتلك كلاهما تقريباً نفس حظوظ الإتحاد الناجح.”[5]

ثالثاً، أخلاقيات الزواج والمساكنة

إلّا أنّ الموضوع لا يتعلّق فقط بالإحصائيات، فهل الأمر أخلاقيّ كتابياً؟  في الواقع فإنّ الكتاب المقدّس وإن كان يوضِّح ماهية الزواج كاتّحاد وثيق يحوِّل الرّجل والمرأة إلى جسد واحد، إلّا أنّه لا يحدِّد طريقته.  وفي سفر التثنية 22 هنالك عدّة شرائع للزواج والعلاقات الجنسية، ولكنها لا تبيِّن حدوث الزواج وطقوسه، وكأنّ النصّ يفترض أن القرّاء لديهم تقاليد زواج سابقة ولم يكن هنالك مشكلة في ترتيباتها.  كما أنّ العهد الجديد لا يأمر بأيّة ترتيبات خاصة للزواج، وهو بذلك يعتمد على ما هو موجود مسبَقاً لدى الشعب اليهودي من طقوس وعادات وترتيبات.  وفي المسيحية هنالك طرق مختلفة للزواج ولكن تعتمد كلّها تقريباً على قيام رجل دين بإتمام مراسم الزواج وإعلان الرجل والمرأة زوجين، وسواء كان التقليد المسيحي يعتبر الزواج سِرّاً كَنَسيّاً يتمّمه الكاهن، أو عهداً لا يتمّ إلا ببركة الكنيسة، فإنّ هذا غير وارد في الكتاب المقدّس، بالرّغم من الاعتراف بفائدته في تنظيم الزواج وحماية المجتمع من فوضى العلاقات المحرّمة وغير الجدّيّة والاستغلاليّة.  ولكن يبدو أنّ بعض المسيحيين لم يفهموا الزواج بهذه الطريقة، فجماعة الكويكرز Quakers، ورغم اعترافها كباقي المسيحيين بقدسيّة الزواج ودور الله فيه كشاهد وشريك، إلّا أنّها لم تعتمد على رجال دين في إتمام الزواج، فعندما يقرِّر شاب وفتاة من هذه الجماعة الزواج يعلنان عن إرادتهما والتزامهما أمام الرب بحضور عائلتيهما والجماعة التي تشكِّل مجتمعهما الصغير.  ويؤكِّد جورج فوكس في عام 1669، وهو مؤسس الكويكرز (أو مجتمع الأصدقاء Society of Friends)، على عدم أحقّيّة أحد في التدخّل لتزويج الزوجين فيقول “الرِّباط الصحيح في الزواج هو عمل الله فقط، وليس عمل الكاهن أو القاضي، لأنّه ترتيب الله وليس الإنسان…نحن لا نزوِّج أحداً، فهو عمل الله، ونحن مجرَّد شهود.”[6]  كما يتبع الآميش Amish (وهم من الأنابابتيست Anabaptists) حتى اليوم طقس زواجٍ بسيط لا يقوم فيه خادم الكنيسة بأكثر من تمنّي البركة وتشجيع الطرفين على تبادل الوعود بالالتزام والشَّرِكة والمحبّة ومن ثمّ إعلان الزواج، من دون أيّ مظهر من مظاهر الفخامة.[7]  وهكذا فإنّ مراسم الزواج تتراوح في المسيحية بين الفخامة العالية والبساطة الكبيرة، وبين ضرورة وجود كاهن يستحضر الرّوح القدس ويتمّم الزواج، وبين وجود خادم يعلن الزواج، وبين وجود شهود مع عدم وجود مشاركة أيّ من الخدّام واعتبار الزواج عمل إلهي بحت بدون تدخّل أطراف بشرية باستثناء طرفي العلاقة.

من الواضح أنّه طالما ليس هنالك من ترتيبات خاصّة بالزواج (أو التزويج) في الكتاب المقدَّس، فإنّ الترتيبات البشرية الموجودة اليوم موضوعة لما فيها فائدة الأسرة والمجتمع؛ فالحضور الجماعي لمراسم الزّواج، والعهود، وتوقيع الأوراق في مبنى الكنيسة والمقرّات الحكومة المنوطة بالموضوع، تهدف كلّها إلى جعل عملية الارتباط بين الرجل والمرأة أكثر ديمومةً وذا وضعية قانونية ومجتمعية معتَرَف بها، بحيث يصبح فكّ هذا الإرتباط صعباً ويحتاج للعديد من الإجراءات القانونية، بالإضافة إلى ما يحيط بذلك من المشاكل الإجتماعية والدينية والإقتصادية بالنسبة لطرفيْ العلاقة؛ أي أنّه يصعب القول بأنّ إجراءات الزواج تحمل قيمة أخلاقية مطلقة إلّا من حيث كونها مفيدة في بعض جوانبها وتزيد من تماسك الإرتباط، على الأقل من الجهة القانونية والمجتمعية (في المجتمعات المتماسكة التي لا تقدِّس الفردانية Individuality).  ولا يوجد ما يشير في الكتاب المقدَّس، وخصوصاً في العهد الجديد، إلى أنّ حضور الله في العلاقة الزوجية مرهون يمراسم دينية معيّنة أو بلفظ عبارات البركة التي ينطق بها رجل الدّين.  ويمكن القول بأنّ الربّ يكون حاضراً في هذه العلاقة ومبارِكاً لها فقط حين يكون طرفا العلاقة، أي الرّجل والمرأة، في حالة تسليم قلبي له بحيث يمتلكان الإرادة لحضوره الدائم والثقة بهذا الحضور، وربما ينطبق هنا ما قاله يسوع عن حضوره حين يجتمع تلاميذه باسمه (مت 18: 19-20).[8]  ورغم أنّ ترتيبات الزواج الحالية غالباً ما تكون ذات فائدة عظيمة ويُنصَح بها من أجل فائدة الفرد والأسرة والمجتمع إلّا أنّه يمكن القول أيضاً أنّها لا تمثِّل الحالة الأصلية، بل هي موضوعة كمستويات من الحواجز الإجتماعية والقانونية المتعدّدة بغرض كبح جماح الإرادة البشرية الفردية، والتي كثيراً ما تكون ملتوية وغير ملتزمة بأيّ عهد وميّالة إلى الهرب من المسؤولية.

وبناءً على هذا فإنّ أخلاقية موضوع الإتّحاد بين الرجل والمرأة لا تتعلّق بترتيبات هذا الإتّحاد، بل تتعلّق بالحالة الرّوحية للطرفين وحقيقة نواياهما في الإلتزام.  ويتّضح من الدراسات الاجتماعية المتعددة أنّه لا المساكنة تضمن نجاح العلاقة ولا الزواج الديني التقليدي يضمنها أو يحٌّق غرض الله منها، فكم من زوجيْن لا تجد كلمات البركة في قلبيهما مكاناً، وكم من شاب وفتاة وجدا نفسيهما في مجتمعٍ لا يعرف إلّا المساكنة فكان أن وضعا في قلبيهما الرّغبة الحقيقية في الإخلاص والإلتزام على قدر النور الذي وصلهما! 

بالإضافة إلى ذلك فإنّ المنظومات الدينية خاصةّ (وكثير من المنظومات المدنية) لا يمكنها أن تبيح المساكنة حتى لو كانت تعلم أنّ القيمة الأخلاقية تتعلّق بمدى التزام الشخصين.[9]  فعبارة قانونية قد تصرِّح بها جهة دينية، مثل “المساكنة مسموحة”، ستخلق فوضى عارمة، وستكون عذراً لمن يريد أن يستخدم هذا الموضوع من المراهقين أو الرّاشدين غير المسؤولين للاستغلال الجنسي والتسلية؛ أيّ أن الجهات القانونية والدينية المسؤولة قد تمنع أحياناً امراً معيناً أو تضع العراقيل في طريقه ليس لأنّه شرّ في حدّ ذاته، ولكن لأنّه- كالمتفجرات والتكنولوجيا مثلاً- يشكِّل طريقاً مفتوحاً لكثير من الشرور التي لا يمكن إيقافها في عالم ساقط لا يمتلك كلّ سكّانه الوعي الكافي والمعرفة لمشيئة الله ولقدسية الاتحاد بين الرّجل والمرأة.  ولكن الموضوع بالمختصر، أنّه لا الزواج التقليدي ولا المساكنة يعبّران عن حقيقة إرادة أو إلتزام الطرفين من الناحية الأخلاقية، كما أنّ البركة الإلهية تتعلّق بالحالة القلبية وليس بمظاهر النشاط الخارجيّ المرئيّ من قِبَل المجتمع؛ فمنذ البدء كان هنالك رجلُ وامرأة فقط.

هنالك أيضاً جزئيّة مهمّة بشأن موضوع الارتباط بين الرّجل والمرأة، ألا هو موضوع السياق.  لا شكّ في أنّ خطة الله للارتباط بين الرجل والمرأة هو الاتحاد الأبدي وتشكيل عائلة تكون خليّة جديدة من خلايا المجتمع الإنسان المكوَّن بمعظمه من عوائل، وهذا واضح في الكتاب المقدّس ككلّ.  فالزواج هو خطّة الله لازدياد الجنس البشري، ولاختبار الشركة المحبّيّة العظيمة الي يؤمّنها هذا الاتحاد بين الرجل والمرأة.  التكاثر والشَّرِكة هي من أساسيات الناموس الطبيعي الإنساني الجميل الذي خلقه الله منذ البدء، وإن كان الزواج الإلهي قد أخذ طريقه إلى التلاشي في بعض البلدان فحلّت المساكنة والأنواع الأخرى من الإرتباط مكانه، وإن كانت الأخلاقيات الجنسية قد ساءت في كلّ أنحاء المعمورة، فهذا ليس فقط بسبب الميل الإنساني الساقط نحو الخطيّة وعدم الإلتزام.  إنّ هذا الادّعاء هو مجرّد تبسيط للمشكلة، واختصار لها، وتهرّب من المسؤولية تجاهها؛ فبسبب ازدياد المادّية وتحلّل مركزية الأسرة في المجتمع بات الشبّان والفتيات من دون قاعدة اجتماعية قويّة تدعمهما مادياً وعاطفياً وروحياً وتقوّيهما من أجل بناء أسرة جديدة في المجتمع.  فالتحوّل الأسوأ لم يحصل في أخلاقيات الجنس والارتباط بين الجنسيْن أولاً، بل حصل في الحقيقة في شكل المجتمع وتوجّهاته وأولوياته وتفكّكه وازدياد توحّشه المادّي المنفلت من أيّ ضابط.  ولأنّ الناموس الإلهي الطبيعي يجب أن يتمّ لأنّه أساس الوجود البشري فقد ابتكر الإنسان تلقائياً وسائل عديدة لتعويض هذا الخلل الخطير في شكل الوجود الاجتماعي الذي لم يشهد التاريخ الإنساني مثله.  وللأسف فإنّ الكنيسة اليوم تصرف الكثير من الوقت والجهد والمال في محاربة الانحلال الجنسي من دون أن تحارب أسبابه، والتي إذا لم تُردَع فإنّ كل الكلام عن أخلاق الجنس والزواج لن يكون ذا طائل، بل سيعمّق الفجوة وسيعطي المشكلة أبعاداً جديدة تتمثّل في الكبت والقهر بكلّ ما يؤدّي إليه ذلك من مشاكل.

وكما تبيّن أعلاه فإنّ الزواج في المسيحية يُنظَر إليه بأشكال عديدة، ويتمّ بطرق متعدّدة، بعضها يعتمد على سلطة رجال الدين أو الكنيسة وبعضها الآخر يعتمد على إرادة الشخصيْن فقط (مثل الكويكرز، والذي اتُهموا بإشاعة الزِّنى سابقاً بسبب أسلوبهم).  ولعلّ نظرة ريتشارد ويليامز للزواج هي الأكثر فرادةً على الإطلاق، فهو يرى بأنّ كلّ زواج بين شخصين قد تمّ حقيقةً في المسيح، وأنّ الحَدَث الوقتي ليس إلّا إظهاراً لما تمّ سابقاً:

 …لقد مورِسَ كل زواج في حياته [حياة يسوع]، مع أنه- من حيث الزمن- انتظر وقته المستوجب ضمن نظام الكون ليصبح ظاهراً.  وسواء كانوا واعين لهذا أم لا، ليس كلّ زوج من العشّاق الحقيقيين في زمنهم أكثر من هذا الإظهار الموافق [للحدث الأصلي]، فعملهم لا أن يكونوا، بل أن يعرفوا أنهم كائنون…وأن زواجهم هو حياته. (Charles Williams, Outlines of Romantic Theology, 15)[10]

إنّ هذه الرؤية قد تسمح بالنَّظَر إلى موضوع الإرتباط بطريقة أسرارية تنزع السُّلطة الفعلية من يد رجل الدين أو الكنيسة أو المجتمع وتضعها في المسيح يسوع بشكل مطلَق.  كيف يمكن معرفة ذلك؟  قد لا يمكن معرفة ذلك، لأنّ هذا يعود إلى ما يدور في ذهن وقلب طرفيْ العلاقة، ولعلّ وصية “لا تُدينوا لكي لا تُدانوا، لأنّكم بالدينونة التي بها تُدينون تُدانون، وبالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم” (مت 7: 1-2 ) تجد تطبيقها الأوضح والأكثر ضرورةً هنا!  فإنّ كان المجتمع المسيحي يُدين أخلاقية المساكنة من حيث مبدئها، ويدين أخلاقيات الجنس (وكثير منها يستحق الدينونة)، فلربّما عليه أن  يفكر في مسؤولياته الكبيرة والمهمَلة في مكافحة المادّيّة في جسمه هو أولاً، وفي مكافحة الفقر والظلم والأنانية والكبرياء.

رابعاً، الزواج والمساكنة في الأخلاق والواقع

كنشاطٍ خارجي خالٍ من المعاني الضمنيّة يكون الزواج التقليدي بمثابة مساكنة تحصل بموافقة السُّلطة الدينية أو المدنيّة، وهو ضروري جداً ولا غِنى عنه لتنظيم واستمرار المجتمع الإنساني، وفي الواقع العمليّ فإنّ إياحة المساكنة في عالم غير مثالي مليء بالشرور هو فتح للباب أمام مشاكل كثيرة تختلف من مجتمعٍ لآخر.  وأمّا من الناحية الأخلاقية المثالية فإنّ أخلاقية المساكنة تعتمد على طرفيْ العلاقة ورغبتهما في أن يكون الله شاهداً وشريكاً على علاقتهما.  والوقوف أمام المجموعة الدينية ورجل الدين لن تزيد أو تنقص أخلاقية ما جمعه الله في المسيح يسوع.  وبالمختصر، فإنّ المساكنة قد تكون أخلاقية من الناحية المعنوية والمثالية ولكنها قد تكون خطيرة جداً في عالم الواقع حين يتبنّاها أناسٌ لاأخلاقيون أو غير مسؤولين، ولكن هذه أيضاً مشكلة الزواج التقليدي الذي قد يكون قائماً على أسس لاأخلاقية حين يقوم به أشخاص استغلاليون وعديمو المسؤولية.

الاستنتاج

لا يدع الكتاب المقدَّس مجالاً للشكّ في أنّ علاقة الإتّحاد بين الرّجل والمرأة هي علاقة مقدَّسة ومؤسَّسة من قِبل الله نفسه منذ بدايات خلق الإنسان؛ فقد كانت وما زالت خطة الله الأساسية أن يكون رجلٌ واحدُ لإمرأة واحدة وأن يصيرا جسداً واحداً بعد إتحادهما.  ويعرض العهد الجديد علاقة الرّجل بالمرأة على أنها علاقة محبّة وعطاء وتضحية متبادلة  ورابط يُراد لها من الله ألّا تنفصم عراه، مشبِّهاً إيّها بعلاقة المسيح والكنيسة.  ولكن بسبب التحوّلات الجذرية في المجتمعات الحديثة، فقد شاعت المساكنة وبدأ الزواج الديني التقليدي بالانحلال.  ورغم اختلاف الدراسات بشأن تأثير المساكنة بشكل سلبيّ على الزواج المحتمل أن يتبعها، إلّا أنّ الدراسات الحديثة تشير إلى أنّ هذا التأثير السلبي بدأ يقلّ بدأ مع انتشار وشيوع المساكنة في كل طبقات المجتمع.

لقد عرف التاريخ المسيحي أشكالاً مختلفة للنظر إلى ماهية الزواج، من حيث كونه سِرّاً كنسياً يتممه رجل الدين أو رباط إلهيّ يجمع بين شاب وفتاة بعلنه رجل الدين، أو يعلنانه هما بنفسيهما أحياناً (كما في حركة الكويكرز).  وفي كل الأحوال فإنّ الكتاب المقدس والعهد الجديد خاصةً لا يشير إلى كيفية إتمام الزواج، مما يدلّ على أنّه كان يعتبر الطقوس والترتيبات السائدة يومذاك صالحة، ولذلك فالحكم الأخلاقي على اتحاد الرجل والمرأة سواء كان بالطريقة الدينية التقليدية أو بطريقة المساكنة أو عن طريق أيّ ترتيبات أخرى يبقى صعباً من بعض النواحي، لأنّ أخلاقية أي موضوع قد تعتمد في الحقيقة على إرادة ونيّة طرفي العلاقة ونظرتهما إلى علاقتهما الشخصية ومكان الله في هذه العلاقة، فلا يمكن أن يعمل الزواج من مبدأ Ex opere operato وأن تكون العلاقة أخلاقية بمجرّد أن ينطق رجل الدين بكلمات معيّنة من دون إرادة فاعلة وحقيقية من قِبَل الطرفين في إقامة علاقة صحيحة يسودها الحبّ ويحكمها الآب السماوي.  ومجدَّداً ينبغي الانتباه إلى ضرورة التفريق بين أخلاقية الفعل في حدّ ذاته، وبين مدى صلاحيته ليكون منتشراً بين كلّ طبقات المجتمع.

إنّ المساكنة لم تنشا من فراغ بل هي نتاج التحوّلات الإجتماعية الجذرية التي حدثت في المجتمعات البشرية الحديثة، والتي فككت الأسرة وألغت دورها في بعض الأحيان، وهكذا نشات أجيال كاملة ترى أنّ المساكنة هي الأساس والشيء البديهيّ.  ولذلك فعلى الكنيسة أن تتعامل بجدّية مع هذا الواقع، وألا تدين التوجّه الجديد من دون إدانة أسبابه الأصلية أولاً والعمل على محاربتها، والتي جعلت من الزواج أحياناً غايةً في منتهى الصعوبة في مجتمع يفتقد للأسر الداعمة للفرد عاطفياً وروحياً ومادياً، وفي مجتمع بات الفرد فيه شبه متروكٍ لشأنه وهو يشعر بالاغتراب والحاجة إلى معينٍ نظيره.  وانطلاقاً من فهمها للناموس الطبيعي على الكنيسة أن تحدِّد أولويتها في إدانة ومكافحة ما يعطِّل هذا الناموس من مادّية وظلم ممنهَج، أكثر من سعيها إلى خوض المعركة الأسهل في إدانة أخلاقيات المساكنة والجنس.

الهوامش

[1] David De Vaus, Lixia Qu, and Ruth Weston, “Premarital Cohabitation and Subsequent Marital Stability,”  Family Matters Magazine 65: 34-39, Winter 2003 ]online[; accessed on 8 September, 2013.  Available on: <http://www.aifs.gov.au/institute/pubs/fm2003/fm65/dev2.pdf&gt;.

[2] Ibid.

[3] Ibid.

[4] Sharon Jayson, “Report: Cohabiting has little effect on marriage success,” USA TODAY newspaper ]online[; Posted 3/2/2010, Updated 10/14/2010; Accessed on 3 September, 2013.  Available on:

<http://usatoday30.usatoday.com/news/health/2010-03-02-cohabiting02_N.htm&gt;.

[5] Ibid.

[6] “Quakers”, BBC: Religions; Last updated 3 July, 2009;  accessed on 4 September, 2013.  Available on: < http://www.bbc.co.uk/religion/religions/christianity/subdivisions/quakers_1.shtml#h7&gt;.

[7] Wanda Brunstetter, “Amish Facts: Amish Facts & Questions I’m frequently asked,” Question 10;  Wanda E. Brunstetter Website;  Accessed on 4 September, 2013.  Available on:

< http://www.wandabrunstetter.com/amish-life/amish-facts/&gt;.

[8] رغم أنّ النص هنا يرد في سياق لا يتعلّق بالزواج إلّا أنه ربما يمكن استخراج مبدأ الحضور الإلهي منه، فإذا كان الرب يحضر في وسط وتلاميذه ملبّياً ما يطلبون باسمه فيما يتعلّق بأمور الحلّ والربط، فلعلّه أيضاً يحضر ليبارك علاقة شابّ وفتاة قرّرا الالتزام في حياة الشَّرِكة مع بعضهما البعض، مسلّميْن حياتهما للحضور الإلهي المبارِك الدّائم!

[9] بعض الحكومات أصبحت تلجأ الآن إلى ابتكار حالة قانونية للمساكنة للحد من فوضى السكن والاستغلال من قبل الطرفين لبعضهما البعض.  أي أن الحالة أصبحت قريبة من الزواج بمعنى ما.

[10] الكلام بين قوسين هو شرح كاتب البحث لمضمون العبارات باللغة الإنكليزية، وليس من أصل الاقتباس.

للتبرّع للموقع For Donations

2 comments

  1. صاحب العقل لا يتزوج ابدا سوف اذكر لكم بعض الأسباب والحكم لكم

    لا تتزوج ابدا لأنك من سيخسر

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.